
في السنة العاشرة من الهجرة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في أكبر تجمع للمسلمين في حجة الوداع، ليقدم للعالم أجمع خلاصة رسالته السامية، ووصاياه الخالدة التي شكلت دستوراً للبشرية جمعاء. لقد كانت هذه الحجة بمثابة الوداع الأخير، رسالة جامعة تضمن بها النبي بقاء دينه وتمام نعمته، وتوفى بعدها بأسابيع قليلة. فما هي أبرز ملامح هذه الحجة وخطبتها الجامعة؟
رحلة الحج الأخيرة: دعوة جامعة وإعداد أمة
بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، حان وقت إعلان إتمام الدين وكماله. خرج النبي صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للهجرة، قاصداً بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومعه عشرات الآلاف من المسلمين، في مشهد مهيب لم يشهده التاريخ من قبل. كانت هذه الحجة فرصة عظيمة لتعليم المسلمين مناسك الحج عمليًا، ولإلقاء وصايا جامعة تمثل خلاصة رسالته.
خطبة الوداع: دستور خالد للبشرية
في يوم عرفة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا في جموع المسلمين، يلقي خطبته الجامعة التي تُعرف بـ خطبة الوداع. كانت هذه الخطبة بمثابة دستور شامل ينظم حياة المسلمين في جميع جوانبها، ويؤكد على قيم أساسية للإنسانية.
من أبرز وصايا خطبة الوداع:
- حرمة الدماء والأموال والأعراض: أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وأنها محترمة كحرمة هذا اليوم والشهر والبلد.الدليل: جاء في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله في صحيح مسلم عن خطبة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.”
- إلغاء عادات الجاهلية: أبطل النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمور الجاهلية، بما في ذلك الربا وثأر الدم، ليبدأ عصرًا جديدًا قائمًا على العدل والإنصاف.
- الوصية بالنساء خيرًا: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا، وذكر حقوقهن وواجباتهن، مما رفع من مكانة المرأة في المجتمع.
- التحذير من الشيطان: نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطر الشيطان، وذكّر بأنه لن يُعبد في جزيرة العرب، ولكن سيُطيع في غير ذلك.
- التمسك بالكتاب والسنة: أوصى الأمة بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، مؤكدًا أنهما الضمان لعدم الضلال بعده.الدليل: “وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي.” (رواه مسلم).
- عدم التنافس بعده: حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التنافس على الدنيا بعد وفاته، وأوصى بتقوى الله.
إعلان إكمال الدين: تمام النعمة والرسالة
بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف في عرفة يلقي خطبته، نزلت عليه آية عظيمة من القرآن الكريم، تحمل بشرى إتمام الدين وكمال النعمة:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
(سورة المائدة: 3).
كان نزول هذه الآية إشارة واضحة على أن رسالة الإسلام قد اكتملت، وأن الله قد رضيها دينًا للبشرية جمعاء. فهم الصحابة من هذه الآية قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتم الله له الرسالة التي بعثه بها.
الوفاة وانتقال الأمانة
بعد حجة الوداع بفترة وجيزة، مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي في ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة، بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. انتقلت أمانة حفظ الدين وتبليغه إلى أمته، التي حملت الراية من بعده.
خاتمة: وصايا خالدة ومنهج حياة
كانت حجة الوداع وخطبتها المباركة بمثابة تتويج لمسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده في سبيل الله. لقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصايا خالدة ومنهجاً واضحاً، يؤكد أن رسالة الإسلام كاملة وشاملة، وأنها دستور حياة للبشرية إلى قيام الساعة. إنها دعوة دائمة إلى التمسك بمبادئ العدل، والرحمة، والمساواة، والتعايش، والتي هي جوهر رسالة الإسلام الخالدة.
ما هي الوصية التي تركتها خطبة الوداع في نفسك الأثر الأكبر؟